19488

Ok

En poursuivant votre navigation sur ce site, vous acceptez l'utilisation de cookies. Ces derniers assurent le bon fonctionnement de nos services. En savoir plus.

Au Café du Tramway !في مقهى الترامواي

 

في مقهى الترامواي

غرقت كعادتي بين ضفتي الكتاب الذي حملته معي إلى المقهى، فكنت هذه المرة صحبة الأديب الكولومبي جبرائيل غارسيا ورائعته "الحب في زمن الكوليرا" وقد نصحني بها الأستاذ الميموني، أحد عشّاق الآداب. بين رشفة وأخرى من قهوتي المعصورة كنت أعود للغوص في ثنايا قصة حب عمره نصف قرن، ظل فيها الحبيب ينتظر حبيبته المتزوجة.

لم يخرجني من خشوعي سوى صوت عزيز، صديق لي قديم يشتغل بقطاع الصحة. استقّر بجانبي وخضنا في الحديث بينما تكفّلت نجاة النّاذلة بإحضار عصير برتقال له. ما يروقني لدى عزيز هو تفانيه في خدمة المرضى وحرصه على مقارعة المرض أياّ كان.

قال مخاطبا:

-        لقد قرأت في إحدى الجرائد الجادّة أن شركة اسمها "صحّتي" تعمل في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، تبيع بطائق صحية بخمسين درهما. لقد أدان المجلس الجهوي للأطباء عملية النصب هذه. أ يعقل هذا؟

-        نعم، أنا بدوري قرأت المقال، هناك لائحة طويلة لأطباء وعيادات ومختبرات وعناوينهم، هم شركاء مع الشركة. حوالي مائة طبيب عام ومتخصص في اختصاصات عدة منها جراحة الأسنان ومرض السكري والولادة والقلب والعيون. يا لها من عملية!

 

-        بما أنك تتحدث عن النصب والاحتيال. المغاربة أضحوا في السنوات الأخيرة فريسة مفضلة للنصّابين. بعد عملية النجاة، توالت العمليات المستغلة لثقة المغاربة العمياء. بالمناسبة، لقد زرت موقعك الخاص على الشبكة مساء أمس. أذهلتني قصتك الأخيرة. اختلفت كثيرا عن الأخريات. أحببتها كثيرا، وخصوصا وصف الحمّام.  أما الصّائغ فقد نال جزاءه...هههههه.

 

-        شكرا يا عزيز. أعتقد أن ما يقال يكتب وكل شيء يجب أن يقال. لقد أعجبتني القصة فوددت تقاسمها مع الآخرين.

-        سأخبرك بعملية نصب أخرى حبكها ونسج خيوطها محترفون. لما قرأت قصتك الأخيرة جئت خصيصا لزيارتك.

-        صدّقني عزيز، سأشارك القصة التي سترويها لي مع قرّائي. لابد أن فيها عبرة لمن يعتبر.

هممت لأنصت للقصة فإذا بشخص يخطو نحونا. كان يلبس فانيلا "البارصا" وعليها رقم "10" بالكاد تعرف ألوانها من أثر القذارة. ملابسه المهترئة وهيئته المتسخة تشي بأنه متشرد يفترش الأرض ويلتحف السماء. دنا مناّ فإذا أنفه أحمر متورد فقال:

-        يا حاجّ، أرجوك أعطني درهما أشتري خبزا

بما أني عاشق للبارصا، مكّنت السائل المراوغ من درهمه وقلت ضاحكا

-        هاك ثمن الخبز، ولا تنسى أن تشرب لنخبي.

أشعلت سجارتي فالتفتّ نحو عزيز وإذا به يغالب الضحك. قالي لي: المتسول إنسان يعرف ما له ولا يعرف ما عليه، لأنّه لا يرى إلاّ "ماله". لنعد إلى موضوعنا، استطرد قائلا.

حين همّ بسرد القصة فاجأنا طفيلي آخر. بائع متجول هذه المرة، جاءنا يعرض سلعه فوق صينية، بدت من سحنته أنه من المهاجرين السريين القادمين من جنوب الصحراء. كان يضع حلقة في أذنه اليمنى فتأكدت لتوّى أنه لم يولد بباريس.  كان يبيع نظارات شمسية مقلدة من نوع "رايبان" وساعات يدوية وأكسسوارات أخرى.

توجه نحو عزيز قائلا بفرنسية يصعب فرزها:

-        سيدي، احم عينيك من الشمس واشتري هذه النظارات

-        من أجلك أبي، هذه الساعة الجميلة لتكون دائما في موعد الخدمة.

-        أي خدمة؟ قلت

لم أكن راغبا في إطلاع البائع المفرنس على ما يجول بخاطري، لكني على يقين أنه يجهل أن الخدمة في بلدنا هي على صنوف وضروب شتى!. تعذّر الفتى الأفريقي بتعب ذارعه من حمل الصينية فوضعها فوق الطاولة حيث يوجد جوّالي،  وبحركة خفيفة ودقيقة حمل الصينية ثانية ومعها الجوّال. لكنه لمّا استدار ليغادر المكان انفلت الهاتف الذكي من بين أصابعه ووقع على الأرض دون أن يتأذّى. فعلا لم يسمّى عبثا بالهاتف الذكي smartphone !

نظر إلينا الفتى الأفريقي الذكي وقد احمر وجهه من شدة الحرج وقال:

-        عذرا سيدي لم أكن أقصد ذلك. فأنا آكل من عرق جبيني. أعذراني من فضلكما!

-        لا عيلك. انصرف لحالك الآن. قلت له.

كان ذلك درسا لن ينسى. بعد أن شرب من عصيره، واصل عزيز سرد قصته التي جاءني من أجلها. يقول: دخل رجل أربعيني محلّ صياغة بحي مهيضرة الراقي ، وكان ذا لحية خفيفة ولابسا جلبابا صوفيا ابيضا ومعتمرا طربوشا أحمرا وبيده محفظة جلدية ثمينة. ألقى التحية، فرده الصائغ بأحسن منها لمّا اطّلع على هيئته . أدخل الرجل يده إلى جيبه فأخرج قرطا وطلب من الصائغ أن يصلحه. طلب منه الصائغ أن يعود بعد برهة ريثما ينتهي من إصلاح القرط فأجابه الرجل:

-        هلاّ أصلحته الآن فأنا رجل مسنّ وليس بوسعي المشي. اسمح لي من فضلك بالجلوس على هذا المقعد حتى تنتهي ؟

-        لابأس، تفضل بالجلوس سيدي

بينما كان الرجل جالسا، دخلت سيدة هي كذلك في الأربعين من عمرها مرتدية جلبابا مخزنيا سرعان ما ملأ عطرها الهفهاف المكان. كانت تضع نظارات سوداء نفيسة على شعرها الأسود المصفف. بادرت الصائغ بصوت متغنّج فيه بحّة شهوانية وسألت عن ثمن أساور وسلاسل من ذهب. بعد أن عرفت الثمن وقد بدا لها باهظا غادرت المكان معتذرة عن الإزعاج.

كنت أنصت بشغف إلى قصة عزيز ولم أرد مقاطعته. توقف قليلا ليشرب من عصيره وكذلك فعلت، ثم واصل:

بعد خمسة دقائق، جاء رجل حسن السّمت يسأل بدوره عن ثمن خاتم ومعصميّة، وغادر هو الآخر بعد أن عرف الثمن. بعد ذلك توجه الصائغ للرجل الجالس رفقته بالكلام قائلا:

-        أمر غريب فعلا، لم يلحظ أحد من هؤلاء وجودك معي في المحل

-        سأخبرك أمرا يا بنّي. أنا لا يرني إلاّ أولياء الله، أما الذين عليهم لعنته فليسوا يروني. أنا سليل أسرة شريفة. صدّقني، قبل يومين زرت بلاد الحرمين وعدت في برهة من الزمن. أخرج منديلا أبيضا من جيبه وأعطاه للصائع. هاك. شمّ ريح الأماكن المقدسة.

انشرح الصائغ وانبسطت أسارير وجهه هو الذي طالما حلم بزيارة بلاد الحرمين. نهض من مقعده ومدّ يديه معا لينال المنديل المبارك وأخذ يستنشق ريحه بنهم وخشوع بيّنين. فما كان منه إلا أن تمدّد على المقعد وخلد إلى نومة هنيئة بفعل قوة الكلوروفورم. عندئذ سحب الرجل الأربعيني قفّازا من محفظته بخفة ووضعه، ثم شرع ينهل من الكنوز أمامه، دون أن ينسى استرجاع قرطه. بعدها دخل الزبونان المتآمران ونالا قسطهما من الغنيمة، ثم انسلّ الجميع سالمين غانمين.

-        ياله من أبله! قلت لعزيز. صدق من قال : لا عبرة لمن يعتبر.

ترجمة خ.و بتصرف

 

Les commentaires sont fermés.